كلمة الرئيس نجيب ميقاتي في مأدبة غداء "مجموعة الاقتصاد والأعمال، لمناسبة انعقاد الدورة الحادية عشرة لمؤتمر أسواق رأس المال العربية (دورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري) واعلان برنامجه في لبنان والخارج للعامين (2005 2006)" – البريستول
الثلاثاء، ٢٤ أيار، ٢٠٠٥
أيها الحضور الكرام،
إنها مناسبة طيبة أن يأتي لقاؤنا هذا عشية الذكرى الخامسة لتحرير القسم الكبير من الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي. هذا الحدث أكد وحدة اللبنانيين وأهمية تنامي إرادتهم الوطنية وخياراتهم القومية، وأثبت للعالم أن شعباً يتمسك بحقه ويقاوم في سبيله، هو شعب يستحق الحياة والكرامة. فتحية الى شهداء لبنان، عسكريين ومقاومين وجميع من ساهم في صنع هذا الانتصار، الذي سيبقى محطة مضيئة في تاريخ لبنان.
كذلك يتزامن هذا اللقاء عشية بدء المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية التي التزمت حكومتنا اجراءها في موعدها الدستوري، وفي مناخ نزيه وحر وديموقراطي. ونأمل استكمال المراحل الأخرى بالأجواء نفسها، بحيث تختم المرحلة الأخيرة من عمر هذه الحكومة التي كان لي شرف رئاستها، فنسلم الأمانة إلى الحكومة العتيدة التي ستنبثق عن المجلس النيابي الجديد. ويهمني أن أؤكد هنا أن التزامنا إجراء الانتخابات في موعدها لا تكمن أهميته فقط في الأبعاد الوطنية والسياسية لهذا الاستحقاق، بل تتعداه إلى انعكاساته على الوضع الاقتصادي ككل وعلى المناخ الاستثماري، خصوصاً الذي لا يمكن ان يتوافر بصورة كاملة وملائمة إلا في ظل الديموقراطية والحرية بكل أبعادها وبكل ما فيها من معان.
عندما كلفنا تشكيل هذه الحكومة المحدد عمرها بأشهر بل أسابيع قليلة، لم تكن لدينا أوهام اننا سنحقق الكثير، ولم تكن لدينا الرغبة بالتالي في إغداق الوعود. غير اننا كنا ندرك أن التزامنا تنفيذ تعهدات محددة تقتضيها ظروف المرحلة والمصلحة العليا لن يعفينا من ايلاء الشأن العام الاقتصادي والاجتماعي الاهتمام المطلوب والممكن كما لن يعفينا من درس عدد من الملفات الاقتصادية الملحة. ونحن نعمل في هذا المجال ومنذ اليوم الأول على هدي القول المأثور "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً".
من هنا، تعكف الحكومة وعبر الوزراء المعنيين على درس القضايا الاقتصادية الأساسية كفريق عمل متجانس ومتكامل سعياً إلى تكوين رؤية شاملة لخطة متكاملة تكفل معالجة الوضع الاقتصادي من مختلف جوانبه. ونحن في هذا العمل نأخذ في الاعتبار كل المنجزات التي حققتها الحكومات السابقة وننطلق منها لأن الحكم استمرار وتواصل. وأقول، في هذا المجال، إن الأسس التي أرساها دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري والارث الكبير الذي تركه، إنما يفرض نفسه على أي رئيس حكومة، ولكن بالطبع مع مراعاة التطورات والمتغيرات التي قد تفرض تعديلاً هنا أو إضافة هناك. ولعل في طليعة المنجزات التي حققها الرئيس الشهيد يبرز مؤتمر "باريس2" الذي حقق نتائج باهرة ومهمة بكل المقاييس، لكن الظروف التي أعقبت ذلك، جميعكم تعرفونها، عطـّلت بعض هذه النتائج وأجهضت البعض الأخر. ولولا ذلك، لكان "باريس2" خطوة أساسية لمرحلة اقتصادية جديدة. من هنا، نؤكد إن الاصلاح المنشود وعلى أكثر من صعيد هو السبيل الوحيد للخروج من أزمة المالية العامة. وهذا الإصلاح يحتاج إلى عملية جراحية ربما تكون قاسية وتتطلب توافقاً سياسياً مخلصاً بعيداً من المزايدات ومن الحسابات الآنية. وإننا نعوّل كثيراً على المجلس النيابي الجديد والحكومة التي تنبثق عنه في توفير المناخ السياسي القادر على توليد خطة إصلاحية قادرة في حال التزام تنفيذها ان تمهد لخطوات دعم كبيرة لا سيما في هذه الظروف التي يحظى لبنان فيها باهتمام عربي ودولي كبيرين.
ان التوافق السياسي على حزمة الإصلاحات المطلوبة والذي يسميه البعض "بيروت ـ 1" يشكل قاعدة أساسية للانطلاق في اتجاه معالجة أزمة المديونية التي تلقي بثقلها على كاهل الاقتصاد اللبناني وتحد من امكاناته المتاحة، فضلاً عن الامكانات الكامنة وغير المستغلة ومما يجعل هذا التوافق أمراً ملحاً وفي غاية الأهمية عاملان أساسيان:
الاول: يتمثل في ما تشهده المنطقة من فورة في الفوائض المالية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط المتوقع استمراره في المدى المنظور، ويترافق ذلك مع اهتمام عربي وخليجي تحديدا بالاستثمار في لبنان الذي يمتلك مزايا تفاضلية عدة.
أما العامل الثاني، فيتمثل في المناعة التي أظهرها الاقتصاد اللبناني في هذه المرحلة، بحيث أن الانعكاسات التي واجهناها جاءت، ومن دون شك، محدودة قياساً إلى حجم الكارثة التي شهدها لبنان باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبما كان يمثله من ثقل ووزن على أكثر من صعيد. فعلى رغم الجريمة ـ الزلزال، حافظ لبنان على استقراره النقدي بفضل الإجراءات التي اعتمدها مصرف لبنان خلال الأيام العصيبة، وبفضل التعاون الذي أبدته جمعية المصارف، والثقة التي تحظى بها المصارف اللبنانية بعد نجاحاتها المتكررة في الامتحانات الصعبة. ولعل الامتحان الأخير كان الأصعب بينها. كذلك، وعلى رغم مما حصل، استمر النبض في الحركة الاستثمارية حيث شهدت الأسابيع الماضية العديد من العمليات النوعية. كما شهدت تحويلات مالية إلى لبنان ومن مصادر مختلفة.
على الرغم هذه المناعة، فان ما يعوزنا دائما، وفي هذه المرحلة بالذات، هو الحفاظ على الثقة والعمل على ترسيخها في الداخل والخارج، لأن الثقة هي مرتكز أساسي للاقتصاد اللبناني. وما انعقاد منتدى الاقتصاد العربي الذي تنظمه الشهر المقبل مجموعة الاقتصاد والأعمال، بالاشتراك مع مصرف لبنان وجمعية المصارف، إلا خير دليل على هذه الثقة وعلى النظرة الايجابية تجاه مستقبل لبنان وآفاقه. وليست المرة الأولى التي تشكل مجموعة الاقتصاد والأعمال عنواناً للتفاؤل، فكلنا يذكر أنه كان لهذه المجموعة شرف تنظيم أول مؤتمر للاستثمار في العام 1993، بعد أشهر قليلة من دخول لبنان مرحلة الاستقرار والسلم الأهلي. ولقد ساهم ذلك المؤتمر في كسر الحاجز النفسي أمام المستثمرين العرب، وأسس لسلسلة من المؤتمرات السنوية في لبنان التي استقطبت آلاف المستثمرين ورجال الأعمال.
كنت ولا أزال من المتفائلين بمستقبل لبنان على رغم الفترة المقبلة الحافلة بالتحديات سواء السياسية أو الاقتصادية، والتي تتطلب عملاً دؤوباً. ولكنها تتطلب أيضا تضافر الجهود وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص. وهذا التعاون دعونا إليه منذ اليوم الأول وبدأناه بلقاء موسع مع الهيئات الاقتصادية. ونأمل أن يستمر الحوار والتشاور بغية بلورة حلول ومقترحات تخدم اقتصادنا وتوفر سبل النهوض.